النهج القائم على المنطقة: الطريق نحو تعافي سوريا وإعادة الحياة إلى المدن بعد التحرير
مع تعقد المشهد الإنساني في سوريا، وتزايد حجم الدمار في المدن والبلدات التي شهدت قصفا واسعاً ونزوحًا متكرراً، بات واضحاً أن التدخلات التقليدية لم تعد كافية لإعادة الحياة إلى المجتمعات.
فالمجتمع الذي يفقد شبكات المياه والمدارس والمنازل وسوق العمل لا يمكن إنعاشه عبر مشروع واحد أو تدخل جزئي، بل يحتاج إلى رؤية شاملة تدمج كل هذه القطاعات ضمن إطار واحد.
ومن هنا يبرز النهج القائم على المنطقة– بوصفه واحداً من أكثر الأساليب شمولاً وقدرة على تحقيق التعافي الحقيقي.
نهج يعتمد على المكان والناس معاً
يقوم النهج القائم على المنطقة على فكرة بسيطة لكنها جوهرية:
المكان هو نقطة الانطلاق، والناس هم محور التدخل.
فبدلاً من تنفيذ مشاريع منفصلة في قطاعات محددة، يركّز هذا النهج على منطقة جغرافية بعينها — حي، قرية، بلدة، أو مدينة — ويتم التعامل مع احتياجاتها بشكل متكامل يشمل التعليم والمياه والصحة والإصحاح وسبل العيش والبنية التحتية والحماية.
هذا التكامل لا يتحقق إلا عبر تنسيق وثيق يجمع المنظمات الدولية والجمعيات المحلية والسلطات والمجتمع نفسه، ما يجعل التدخل أكثر دقة وفاعلية واستدامة.
لماذا هذا النهج مناسب لسوريا اليوم؟
بعد سنوات طويلة من الحرب، برزت تحديات كبرى جعلت النموذج الإنساني التقليدي أقل قدرة على تلبية الاحتياجات، ومنها:
- دمار واسع طال الخدمات الأساسية.
- تراجع كبير في التمويل الدولي.
- حاجة المجتمعات لحلول مستدامة تتجاوز الطوارئ.
- تعقيدات جغرافية وسكانية تتطلب تخطيطاً محلياً دقيقاً.
نتيجة لذلك، ظهرت الحاجة إلى منهج مرن قادر على جمع الإغاثة والتنمية والسلام في إطار واحد. وهكذا أصبح النهج القائم على المنطقة الخيار الأكثر واقعية في سياق التعافي السوري، وخاصة مع سعي المجتمعات إلى العودة والاستقرار وإعادة بناء حياتها.
الترابط الثلاثي: الإغاثة – التنمية – السلام
يترجم النهج القائم على المنطقة ما يُعرف بـ”الترابط الثلاثي” إلى واقع عملي. ففي المنطقة الواحدة تُنفذ:
- تدخلات إغاثية تلبي الاحتياجات العاجلة.
- مشاريع تنموية تعيد بناء الخدمات الأساسية.
- أنشطة تعزز التماسك الاجتماعي وتدعم السلام المحلي.
هذا الدمج يولّد بيئة مستقرة ومحفزة للعودة الطوعية، ويمكّن الناس من المشاركة في صناعة مستقبلهم بدل البقاء في دائرة الاعتماد على المساعدات.
من الطوارئ إلى الاستدامة
من أهم مميزات هذا النهج قدرته على ربط التدخلات القصيرة الأمد بأهداف طويلة الأمد.
فمثلاً، بناء محطة مياه تعمل بالطاقة الشمسية يوفر مياه الشرب اليوم، لكنه أيضاً يخلق نظاماً مستداماً قليل التكلفة يحافظ عليه المجتمع مستقبلاً.
هكذا يتحول المشروع من مجرد “استجابة طارئة” إلى استثمار في المستقبل.
عناصر نجاح النهج
نجاح النهج القائم على المنطقة يعتمد على أربعة عناصر رئيسية:
- الموارد: تمويل من عدة جهات ضمن خطة موحدة. OCHA, AFS, QC
- المعلومات: تقييمات دقيقة وخرائط خدمات محدثة تعكس احتياجات السكان الحقيقية.
- المشاركة المجتمعية: لجان أهلية ومشاورات مستمرة تضمن أن يكون المجتمع شريكاً لا متلقياً فقط.
- الحوكمة والتنسيق: آليات محلية تجمع السلطات والمنظمات والمجتمع لاتخاذ قرارات واقعية وتجنب الازدواجية.
سراقب… نموذج يؤكد فعالية النهج
تُعد مدينة سراقب في ريف إدلب الشرقي أحد أبرز الأمثلة التي تجسّد هذا النهج على أرض الواقع. فمع بداية 2025، سارعت جمعية عطاء للإغاثة الإنسانية إلى تنفيذ خطة متكاملة لإعادة الحيوية إلى المدينة، بعد ما لحق بها من دمار واسع ونزوح كبير.
وفي إطار هذه الخطة، نُفذت تدخلات متوازية شملت:
- التعليم: ترميم وتأثيث خمس مدارس وتشغيل التعليم غير الرسمي لعام كامل.
- المياه والإصحاح: تشغيل ثلاث محطات مياه، وتأهيل شبكات المياه والصرف الصحي بالكامل.
- المأوى: بناء 22 شقة سكنية وترميم 207 منازل متضررة.
- النظافة العامة: توزيع حاويات وتعزيز خدمات جمع النفايات.
- الطاقة والإنارة: تركيب أعمدة إنارة في السوق التجاري.
- سبل العيش:
- ألف منحة نقدية متعددة الاستخدامات،
- مئة منحة زراعية/حيوانية،
- مئتا منحة مشاريع صغيرة،
- وترميم سوق الماشية.
- الحماية: إنشاء مركز حماية مجتمعية ونقطة استشارات قانونية وتفعيل نظام الإحالة وفق خارطة خدمات محدّثة.
نتائج ملموسة… وتغيّر حقيقي
أثمرت هذه الحزمة المتكاملة عن تحسن واضح في حياة السكان، أبرزها:
- زيادة الوصول إلى الخدمات الأساسية.
- ارتفاع الدخل وتحسن الأمن الغذائي عبر المنح الاقتصادية.
- تعزيز العودة الطوعية إلى المدينة.
- تقوية الروابط بين المجتمع المحلي والمنظمات.
ما يجعل تجربة سراقب نموذجاً عملياً يمكن تكراره في مناطق أخرى.تثبت التجربة أن النهج القائم على المنطقة ليس خياراً فنياً أو منهجياً فحسب، بل استراتيجية ضرورية لنهضة المجتمعات بعد التحرير. فهو يوفّر إطاراً عملياً يجمع الإغاثة والتنمية والسلام في مسار واحد، ويضمن أن يكون التعافي شاملاً لا مجتزأ، ومستداماً لا مؤقتاً.
ومن خلال هذا النهج، يمكن إعادة بناء المدن السورية على أسس قوية تعيد الكرامة والخدمات وفرص الحياة للسكان، وتفتح الطريق نحو مستقبل قادر على الصمود والنمو…
مستقبل يبدأ من المناطق، وينتهي بسوريا تنبض بالحياة من جديد.
